إشارة لما ظل يتداوله الناس حول المصطلح القديم الذي جددته حادثة الايام في السودان، خاصة خلال مساجلات وملاسنات حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣م في السودان وما صاحبتها من اوصاف لمؤيدي طرفيها (الحرب)، حول إطلاق كلمة فلنقاي والتي أصلها فلقناي بلهجة اهل دارفور، وصفا سياسيا ووصما اجتماعيا واستهجانا سلوكيا لمؤيدي الطرف الآخر تحقيرا واذلالا لهم.
إن وصف كل طرف لغريمه بالفلنقاي/ فلقناي لقيامه بدور التفلنق/ التفلقن، حسب مدلول الوصف المتداول الآن، حتى يؤدي التحقير المقصود وهو توصيف من يقوم بدور الخادم المطيع طاعة عمياء للحاكم او السلطان دون النظر الى استقلالية الفرد. لكن بالنظر الى اساس الكلمتين فإن الفرق شاسع وبعيد، انظر إلى وصف الفعل (خدمة الحاكم) فتجدهما مخالفتين تماما، فوصف دور الفلنقاي يصبح تفلنق، إما الفلقناي فهو تفلقن، وهي ليست بعيدة عن تفنقل من الفنقلة التي تعني الاستلقاء على الظهر مع وضع إحدى الساقين على الاخرى دلالة على الراحة والامان من حادثات الايام وعواقب الامور*.
لقد تناول احد شراح كلمة فلنقاي في اجتهاده لايجاد منشأ للكلمة، مشيرا الى سياقاتها السياسية والاجتماعية والنفسية، قائلا: إنها نشأت ابان فترة الاستعمار الانجليزي لجمهورية السودان التي بدأت في العام ١٨٩٩ بحملة كتشنر وانتهت باستقلال البلاد في ١/١/١٩٥٦، وهذا خطأ كبير، فالانجليز باعتبارهم حكام عسكريين او غزاة كان طابعهم عسكري بحت كما كان الأتراك من قبلهم، فكانوا يستخدمون كلمة Boy او تابع ومنها استخدم السودانيون من بعدهم كلمة جنا جيش او تابع وصفا لمن يخدم القائد، كما استخدموا كلمة Servant بمعنى خادم او نادل وغيرها من الأوصاف التي لم تكن من بينها كلمة فلنقاي التي ارجعها بعض الشراح الى أنها اختصار لعبارة Jug filling guy أي الذي يقوم بملء الاباريق، وهذا لا يستقيم، فلا يمكن أن يكون اللاحق فلنقاي(Jug filling guy) اصل أو أساس للسابق فلقناي.
إن كلمة فلقناي هي اقدم من الاستعمار الانجليزي للسودان، فهي دارفورية المنشأ والاستخدام وهي كلمة دارجية (محلية) مأخوذة من كلام اهلنا المعروف بعربي دارفور وهي كلمات عربية بها لكنة او مشوبة ببعض العجمة محاولة منهم للتفاهم باللغة العربية التي اتتهم للتو مع هجرات عرب جهينة، بعد ان كانوا يتحدثون بلهجات مختلفة لقبائل شتى جمعتها ارض دارفور، لذلك تجدها مختلفة قليلا عن فصيح العربية في استخدامات المذكر والمؤنث وفي مخارج بعض الحروف تحديدا الخاء والغين والقاف (تنطق خاء ) والهمزة والعين والالف (تنطق الف) والتاء والطاء( تنطقان تاء) والحاء والهاء والخاء احيانا ( تنطق حاء او هاء كيف ما اتفق)، كما ينطق حرفا السين والصاد(سينا) والضاد والدال ( تنطقان دالا) وأحيانا ينطق القاف كافا والعكس، والخاء كافا واحيانا حاء او هاء، ومعروف للجميع أن مخارج الحروف هي من أصعب مصاعب لغة الضاد.
أعود لاقول إن كلمة فلقناي هي كلمة دارفورية اصيلة تعني من يقوم بخدمة السلطان او الحاكم المسؤل او من يشابههما في الموقع اوالموقف، صغر المجال او كبر، ولا يدخل في هذا التعريف الحواريون او المهاجرون (المهاجرين) الذين يعرفون بعيال ام عيسى تماسيح الرماد ( كما زعم الشارح)، فهؤلاء يقتصر ويختصر دورهم في خدمة شيخهم صاحب الخلوة او حلقة الدراسة تبركا واحتراما وطمعا في التعليم. اما الفلقناي وليس الفلنقاي فهو من يقوم بخدمة مخدومه المذكور مقابل اجر قل او كثر، وهو ليس بالعبد الذي يبيعه التوبوب او تاجر الرقيق او المالك السابق لمن يشتريه (عينه وخدماته ) على سبيل التملك، وهناك نساء يحملن هذه الصفة، إما فلقناي فليس له مؤنث. ويقوم الفلقناي بأداء أعمال تخصصية، فهناك الكوراي، الموقاي (في بعض استخداماته)، الاشنقاي والدادي، والجباي من الكلمة العربية جباية، وغيرها من المهن والادوار التي يقوم بها الفلقناي، ويمكن إن يصبح الفلقناي حاكما، بل طاغية كما كان فرعون مصر**.
ما دفعني لهذا التوضيح ليس دفاعا عن شخص أو مجموعة أو حال او موقف سياسي او عسكري او مجاراة للتلاسن الذي صاحب احترابنا الحالي، إنما هو احقاقا للحق وارجاعا لكلمة فلقناي الى منشئها الأصلي وتنبيها للناطقين بغيرها (كلام اهلنا) بان النطق الصحيح للكلمة هو فلقناي من الفلقنة او التفلقن، وليس فلنقاي من الفلنقة او التفلنق، والفرق واضح وجلي. وتتجلى روعة عربي دارفور عند تصغير المفرد، او تحقير الفعل او الصفة، او إعادة نقل الحدث او وصف الشيء بطريقة درامية، خاصة عندما يجلس المؤانسون في ظل شجرة او ام جلموية او لقدابي ( راكوبة) للانس او تجديد وتجليد البنابر والعناقريب وتثقيف اعواد الرماح والسفاريك وتجهيز معدات ولوازم الزراعة، خاصة عندما يقترب الخريف في مثل الايام.
واخيرا انتبهوا للنطق الصحيح للكلمة، فهي فلقناي وليس فلنقاي، وهي من أهم كلمات لغة او لهجة اهل دارفور.
تحياتي وودي لكم.
احد تلاميذ استاذ التراث الشعبي الدارفوري الراحل/ ادم احمد عبد الكريم(دقاش).
*انظر اغنية الفنان الشعبي حجر الزلط … البفنقل بسرواله. وكذلك قصيدة الاستاذ الراحل الشاعر/ احمد السنوسي … تراث قومي وددت اليوم اجمعه.
** انظر كتب التاريخ الإسلامي.
يمكنك مشاركة هذا المحتوى :